فصل: تفسير الآيات رقم (58- 61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 61‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان، فذكره هاهنا على وجه أخصّ، فقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ والخطاب للمؤمنين، وتدخل المؤمنات فيه تغليباً كما في غيره من الخطابات‏.‏ قال العلماء‏:‏ هذه الآية خاصة ببعض الأوقات‏.‏ واختلفوا في المراد بقوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ‏}‏ على أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنها منسوخة، قاله سعيد بن المسيب‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إن الأمر فيها للندب لا للوجوب‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك واجباً حيث كانوا لا أبواب لهم، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأمر هاهنا للوجوب، وإن الآية محكمة غير منسوخة، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهو قول أكثر أهل العلم‏.‏ وقال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ إنها خاصة بالنساء‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ هي خاصة بالرجال دون النساء‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏‏:‏ العبيد، والإماء، والمراد ب ‏{‏الذين لم يبلغوا الحلم‏}‏‏:‏ الصبيان ‏{‏منكم‏}‏ أي‏:‏ من الأحرار، ومعنى ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏‏:‏ ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات، وانتصاب ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ على الظرفية الزمانية أي‏:‏ ثلاثة أوقات، ثم فسر تلك الأوقات بقوله‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏ إلخ، أو منصوب على المصدرية أي‏:‏ ثلاث استئذانات؛ ورجح هذا أبو حيان، فقال‏:‏ والظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ ثلاث استئذانات، لأنك إذا قلت‏:‏ ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات‏.‏ ويردّ‏:‏ بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات‏.‏ قرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية الحلم بسكون اللام، وقرأ الباقون بضمها‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الحلم من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام‏.‏

ثم فسر سبحانه الثلاث المرات، فقال‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏، وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وربما يبيت عرياناً، أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره فيها، ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هي من قبل، وقوله‏:‏ ‏{‏وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة‏}‏ معطوف على محل ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏، و«من» في ‏{‏مّنَ الظهيرة‏}‏ للبيان، أو بمعنى‏:‏ في، أو بمعنى‏:‏ اللام‏.‏ والمعنى‏:‏ حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة، وذلك عند انتصاف النهار، فإنهم قد يتجرّدون عن الثياب لأجل القيلولة‏.‏ ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث، فقال‏:‏ ‏{‏وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء‏}‏، وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب، والخلوة بالأهل، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل، فقال‏:‏ ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ثلاثُ عورات‏}‏ برفع ثلاث وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل‏:‏ أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة؛ ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلاً من الأوقات المذكورة أي‏:‏ من قبل صلاة الفجر إلخ؛ ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل أي‏:‏ أعني، ونحوه، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هنّ ثلاث‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ النصب ضعيف مردود‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الرفع أحبّ إليّ، قال‏:‏ وإنما اخترت الرفع لأن المعنى‏:‏ هذه الخصال ثلاث عورات‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء، والخبر ما بعدها‏.‏ قال والعورات الساعات التي تكون فيها العورة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورات جمع عورة، والعورة في الأصل‏:‏ الخلل، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهمّ حفظه ويتعين ستره أي‏:‏ هي ثلاث أوقات يختلّ فيها الستر‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «عورات» بفتح الواو، وهي لغة هذيل وتميم، فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياء، ومنه‏:‏

أخو بيضات رايح متأوّب *** رفيق بمسح المنكبين سبوح

وقوله‏:‏

أبو بيضات رايح أو مغتدي *** عجلان ذا زاد وغير مزوّد

و ‏{‏لكم‏}‏ متعلق بمحذوف، هو صفة لثلاث عورات أي‏:‏ كائنة لكم، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ ليس على المماليك، ولا على الصبيان جناح، أي‏:‏ إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والإطلاع على العورات‏.‏ ومعنى ‏{‏بعدهنّ‏}‏‏:‏ بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين منها، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏بَعْدَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ بعد استئذانهم فيهنّ، ثم حذف حرف الجرّ والمجرور فبقي بعد استئذانهم، ثم حذف المصدر، وهو الاستئذان، والضمير المتصل به‏.‏ وردّ‏:‏ بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره، بل المعنى‏:‏ ليس عليكم جناح، ولا عليهم، أي‏:‏ العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، وارتفاع ‏{‏طَوافُونَ‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هم طوّافون عليكم، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان‏.‏ قال الفراء‏:‏ هذا كقولك في الكلام هم خدمكم، وطوّافون عليكم، وأجاز أيضاً نصب طوّافين لأنه نكرة، والمضمر في ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ معرفة، ولا يجيز البصريون أن تكون حالاً من المضمرين اللذين في عليكم، وفي بعضكم لاختلاف العاملين‏.‏

ومعنى ‏{‏طوّافون عليكم‏}‏ أي‏:‏ يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرّة‏:‏ «إنما هي من الطوّافين عليكم‏.‏ أو الطوّافات» أي‏:‏ هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن، ومعنى ‏{‏بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏‏:‏ بعضكم يطوف، أو طائف على بعض، وهذه الجملة بدل مما قبلها، أو مؤكدة لها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن كلا منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي، والموالي على العبيد، ومنه قول الشاعر‏:‏

ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه *** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «طوّافين» بالنصب على الحال كما تقدّم عن الفراء، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز أي‏:‏ مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ كثير العلم بالمعلومات، وكثير الحكمة في أفعاله‏.‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم‏}‏ بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعد ما بين فيما مرّ حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، فقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَأْذِنُواْ‏}‏ يعني‏:‏ الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم ‏{‏كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏، والكاف نعت مصدر محذوف أي‏:‏ استئذاناً كما استأذن الذين من قبلهم، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء، ثم كرّر ما تقدّم للتأكيد، فقال‏:‏ ‏{‏كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ وقرأ الحسن «الحلم»، فحذف الضمة لثقلها‏.‏ قال عطاء‏:‏ واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحراراً كانوا أو عبيداً‏.‏ وقال الزهري‏:‏ يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية، والمراد بالقواعد من النساء‏:‏ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض، والولد من الكبر، واحدتها قاعد بلا هاء ليدلّ حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا‏:‏ امرأة حامل ليدلّ بحذف الهاء على أنه حمل حبل، ويقال‏:‏ قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هن اللاتي قعدن عن التزويج، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً‏}‏ أي‏:‏ لا يطمعن فيه لكبرهنّ‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ اللاتي قعدن عن الولد، وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد، وفيها مستمتع‏.‏

ثم ذكر سبحانه حكم القواعد، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه، لا الثياب التي على العورة الخاصة، وإنما جاز لهنّ ذلك لانصراف الأنفس عنهنّ إذ لا رغبة للرجال فيهنّ، فأباح الله سبحانه لهنّ ما لم يبحه لغيرهنّ، ثم استثنى حالة من حالاتهنّ، فقال‏:‏ ‏{‏غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ‏}‏ أي‏:‏ غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، والمعنى‏:‏ من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهنّ، ولا متعرّضات بالتزين لينظر إليهنّ الرجال‏.‏ والتبرّج‏:‏ التكشف، والظهور للعيون، ومنه ‏{‏بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ وبروج السماء، ومنه قولهم‏:‏ سفينة بارجة أي‏:‏ لا غطاء عليها ‏{‏وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهنّ من وضعها‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس‏:‏ «أن يضعن من ثيابهن» بزيادة من، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «وأن يعففن» بغير سين ‏{‏والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ كثير السماع والعلم، أو بليغهما‏.‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏ اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة‏؟‏ قال بالأوّل جماعة من العلماء، وبالثاني جماعة‏.‏ قيل‏:‏ إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمانهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم‏:‏ قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك وقالوا‏:‏ لا ندخلها، وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم؛ فمعنى الآية‏:‏ نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم، أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه من الصحابة، والتابعين من التوقيف‏.‏ وقيل‏:‏ إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحاء حذاراً من استقذارهم إياهم، وخوفاً من تأذيهم بأفعالهم، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، وقيل‏:‏ المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو أي‏:‏ لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل إذا أدخل أحداً من هؤلاء الزمنى إلى بيته، فلم يجد فيه شيئاً يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته، فيتحرج الزمنى من ذلك، فنزلت‏.‏ ومعنى قوله ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ‏}‏‏.‏ عليكم، وعلى من يماثلكم من المؤمنين ‏{‏أَن تَأْكُلُواْ‏}‏ أنتم، ومن معكم، وهذا ابتداء كلام أي‏:‏ ولا عليكم أيها الناس‏.‏ والحاصل‏:‏ أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء، أو دخول بيوتهم فيكون ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ متصلاً بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر، وعدم العرج وعدم المرض، فقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ ابتداء كلام غير متصل بما قبله‏.‏

ومعنى ‏{‏مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏‏:‏ البيوت التي فيها متاعهم، وأهلهم، فيدخل بيوت الأولاد، كذا قال المفسرون، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد، وذكر بيوت الآباء، وبيوت الأمهات، ومن بعدهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وعارض بعضهم هذا، فقال‏:‏ هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفاً لهؤلاء‏.‏ ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث‏:‏ «أنت ومالك لأبيك»، وحديث‏:‏ «ولد الرجل من كسبه»، ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت الأعمام، والعمات، بل بيوت الأخوال، والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد‏؟‏ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا يشترط الإذن‏.‏ قيل‏:‏ وهذا إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محرزاً دونهم لم يجز لهم أكله‏.‏ ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ‏}‏ أي‏:‏ البيوت التي تملكون التصرّف فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء، والعبيد، والخزّان، فإنهم يملكون التصرّف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته، وإعطائهم مفاتحه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها بيوت المماليك‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ملكتم‏}‏ بفتح الميم، وتخفيف اللام‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم، وكسر اللام مع تشديدها‏.‏ وقرأ أيضاً «مفاتيحه» بياء بين التاء، والحاء‏.‏ وقرأ قتادة ‏{‏مفاتحه‏}‏ على الإفراد، والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك، وتطيب به نفسه، والصديق يطلق على الواحد والجمع، ومنه قول جرير‏:‏

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأسهم أعداء وهنّ صديق

ومثله العدوّ والخليط والقطين والعشير، ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ‏}‏ من بيوتكم ‏{‏جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏ انتصاب ‏{‏جميعاً‏}‏ و‏{‏أشتاتاً‏}‏ على الحال‏.‏ والأشتات جمع شتّ، والشتّ المصدر بمعنى‏:‏ التفرّق، يقال‏:‏ شتّ القوم أي‏:‏ تفرقوا، وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله أي‏:‏ ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين، أو متفرقين، وقد كان بعض العرب يتحرّج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلاً يؤاكله، فيأكل معه، وبعض العرب كان لا يأكل إلاّ مع ضيف، ومنه قول حاتم‏:‏

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً‏}‏ هذا شروع في بيان أدب آخر أدّب به عباده أي‏:‏ إذا دخلتم بيوتاً غير البيوت التي تقدّم ذكرها ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد البيوت المذكورة سابقاً‏.‏ وعلى القول الأوّل، فقال الحسن، والنخعي‏:‏ هي المساجد، والمراد‏:‏ سلموا على من فيها من صنفكم، فإن لم يكن في المساجد أحد، فقيل‏:‏ يقول‏:‏ السلام على رسول الله، وقيل يقول‏:‏ السلام عليكم مريداً للملائكة، وقيل‏:‏ يقول‏:‏ السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وقال بالقول الثاني‏:‏ أعني أنها البيوت المذكورة سابقاً جماعة من الصحابة، والتابعين، وقيل‏:‏ المراد بالبيوت هنا هي كلّ البيوت المسكونة، وغيرها، فيسلم على أهل المسكونة، وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، وانتصاب ‏{‏تَحِيَّةً‏}‏ على المصدرية، لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَسَلّمُواْ‏}‏ معناه‏:‏ فحيوا أي‏:‏ تحية ثابتة ‏{‏مِنْ عِندِ الله‏}‏ أي‏:‏ إن الله حياكم بها‏.‏ وقال الفرّاء‏:‏ أي‏:‏ إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له، ثم وصف هذه التحية، فقال‏:‏ ‏{‏مباركة‏}‏ أي كثيرة البركة والخير دائمتهما ‏{‏طَيّبَةً‏}‏ أي تطيب بها نفس المستمع، وقيل‏:‏ حسنة جميلة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب، ثم كرّر سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ تأكيداً لما سبق‏.‏ وقد قدّمنا‏:‏ أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه، وفهم معانيها‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ بلغنا أن رجلاً من الأنصار، وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فقالت أسماء‏:‏ يا رسول الله ما أقبح هذا‏!‏ إنه ليدخل على المرأة وزوجها، وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن، فأنزل الله في ذلك ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ يعني‏:‏ العبيد والإماء ‏{‏والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ‏}‏ قال‏:‏ من أحراركم من الرجال والنساء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في هذه الآية قال‏:‏ كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين، والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلاّ بإذن‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ثعلبة القرظي عن عبد الله بن سويد قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العورات الثلاث، فقال‏:‏ «إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم، ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلاّ بإذن، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء، ومن قبل صلاة الصبح»

وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب، عن عبد الله بن سويد من قوله‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً ابن سعد عن سويد بن النعمان‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال‏:‏ إنه لم يؤمن بها أكثر الناس يعني‏:‏ آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه، لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن عليّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهنّ‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ والآية التي في سورة النساء ‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏ الآية، والآية التي في الحجرات‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبيّ، ولا خادم إلاّ بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر، فمثل ذلك، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏، فأما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلاّ بإذن على كل حال، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏‏.‏ وأخرج أبو داود، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسندٍ صحيح من طريق عكرمة عنه أيضاً‏:‏ أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس‏:‏ إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه، أو ولده، أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ قال‏:‏ هي على الذكور دون الإناث، ولا وجه لهذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قالت‏:‏ نزلت في النساء أن يستأذنّ علينا‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عن عليّ في الآية قال‏:‏ النساء، فإن الرجال يستأذنون‏.‏

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال‏:‏ هي في النساء خاصة الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار‏.‏ وأخرج الفريابي، عن موسى بن أبي عائشة قال‏:‏ سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء‏:‏ أنه سأل ابن عباس‏:‏ أأستأذن على أختي‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قلت‏:‏ إنها في حجري، وإني أنفق عليها، وإنها معي في البيت أأستأذن عليها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، إن الله يقول‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ‏}‏ الآية، فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلاّ في هؤلاء العورات الثلاث، قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال‏:‏ عليكم إذن على أمهاتكم‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب عنه قال‏:‏ يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، عن جابر نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار‏:‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله أأستأذن على أمي‏؟‏ قال‏:‏ «نعم»، قال‏:‏ إني معها في البيت، قال‏:‏ «استأذن عليها»، قال‏:‏ إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت‏؟‏ قال‏:‏ «أتحبّ أن تراها عريانة‏؟‏» قال‏:‏ لا، قال‏:‏ «فاستأذن عليها» وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم‏:‏ أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل‏.‏

وأخرج أبو داود، والبيهقي في السنن عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الآية، فنسخ، واستثنى من ذلك ‏{‏والقواعد مِنَ النساء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه قال‏:‏ هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرّج بما يكرهه الله، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ‏}‏‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يقرأ «أَن يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابَهُنَّ» ويقول‏:‏ هو‏:‏ الجلباب‏.‏ وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال‏:‏ تضع الجلباب‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏أن يضعن ثيابهنّ‏}‏ قال‏:‏ الجلباب، والرداء‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لما نزلت‏:‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ قالت الأنصار‏:‏ ما بالمدينة مال أعزّ من الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون‏:‏ إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرّجون الأكل مع الأعرج يقولون‏:‏ الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم، ويتحرّجون الأكل مع المريض يقولون‏:‏ لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرّجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى‏}‏ يعني‏:‏ في الأكل مع الأعمى‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال‏:‏ كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله، أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون‏:‏ إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم‏.‏ وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت‏:‏ كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم، ويقولون لهم‏:‏ قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون‏:‏ إنه لا يحلّ لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ قال المسلمون‏:‏ إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ‏}‏، وهو‏:‏ الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن، وكانوا أيضاً يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال‏:‏ كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله، وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ‏}‏ ما بال الأعمى، والأعرج، والمريض ذكروا هنا‏؟‏ فقال‏:‏ أخبرني عبيد الله بن عبد الله‏:‏ أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون‏:‏ قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون‏:‏ لا ندخلها، وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل، وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا‏:‏ كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم‏.‏ وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية، قال‏:‏ خرج الحارث غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف على أهله خالد بن يزيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهوداً، فنزلت‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوّله، ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع فسوّغه الله أن يأكله‏.‏ وقال‏:‏ ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك‏.‏

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ إذا دخلتم بيوتكم، فسلموا على أنفسكم ‏{‏تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله‏}‏، وهو السلام، لأنه اسم الله، وهو‏:‏ تحية أهل الجنة‏.‏ وأخرج البخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ إذا دخلت على أهلك، فسلم عليهم تحية من عند الله ‏{‏مباركة طَيّبَةً‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هو المسجد إذا دخلته، فقل‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب عن ابن عمر قال‏:‏ إذا دخل البيت غير المسكون، أو المسجد، فليقل‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون‏}‏ مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدّمها من الأحكام، و‏{‏إِنَّمَا‏}‏ من صيغ الحصر‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يتم إيمان ولا يكمل حتى يكون ‏{‏بالله وَرَسُولِهِ‏}‏، وجملة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ‏}‏ معطوفة على آمنوا داخلة معه في حيز الصلة أي‏:‏ إذا كانوا مع رسول الله على أمر جامع، أي على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك، وسمي الأمر جامعاً مبالغة ‏{‏لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأْذِنُوهُ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن يشاء منهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وإذن الإمام يوم الجمعة‏:‏ أن يشير بيده‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلاّ بإذنه، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذن على ما يرى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏، وقرأ اليماني‏:‏ «على أمر جميع»‏.‏ والحاصل‏:‏ أن الأمر الجامع، أو الجميع هو الذي يعمّ نفعه، أو ضرره، وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي، والتجارب‏.‏ قال العلماء‏:‏ كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه، ولا يرجعون عنه إلاّ بإذنه‏.‏ ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ فبيّن سبحانه أن المستأذنين هم‏:‏ المؤمنون بالله ورسوله كما حكم أوّلاً بأن المؤمنين الكاملين الإيمان هم‏:‏ الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان ‏{‏فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور التي تهمهم، فإنه يأذن لمن شاء منهم، ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم، وفيه إشارة إلى أن الاستئذان إن كان لعذر مسوّغ، فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية‏.‏

‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً‏}‏ وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها أي لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة، أو الرجوع بغير استئذان، أو رفع الصوت‏.‏ وقال سعيد بن جبير ومجاهد المعنى‏:‏ قولوا‏:‏ يا رسول الله في رفق ولين، ولا تقولوا‏:‏ يا محمد بتجهم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أمرهم أن يشرّفوه، ويفخموه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا تتعرّضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه، فإن دعوته موجبة ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً‏}‏ التسلل‏:‏ الخروج في خفية، يقال‏:‏ تسلل فلان من بين أصحابه‏:‏ إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو‏:‏ أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وأصله أن يلوذ هذا بذاك، وذاك بهذا، واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل‏:‏ اللواذ‏:‏ الزوغان من شيء إلى شيء في خفية‏.‏ وانتصاب لواذاً على الحال أي‏:‏ متلاوذين يلوذ بعضهم ببعض، وينضمّ إليه، وقيل‏:‏ هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي‏:‏ يلوذون لواذاً‏.‏ وقرأ زيد بن قطيب‏:‏ ‏"‏ لواذاً ‏"‏ بفتح اللام‏.‏ وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة، والخطبة، فكانوا يفرّون عن الحضور، ويتسللون في خفية، ويستتر بعضهم ببعض، وينضم إليه‏.‏ وقيل‏:‏ اللواذ‏:‏ الفرار من الجهاد، وبه قال الحسن، ومنه قول حسان‏:‏

وقريش تلوذ منكم لواذا *** لم تحافظ وخفّ منها الحلوم

‏{‏فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي‏:‏ يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك العمل بمقتضاه، وعديّ فعل المخالفة بعن مع كونه متعدّياً بنفسه لتضمينه معنى الإعراض، أو الصدّ، وقيل‏:‏ الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة، و‏{‏أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ مفعول يحذر، وفاعله الموصول‏.‏ والمعنى‏:‏ فليحذر المخالفون عن أمر الله، أو أمر رسوله، أو أمرهما جميعاً إصابة فتنة لهم ‏{‏أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أي في الآخرة كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا، وكلمة «أو» لمنع الخلوّ‏.‏ قال القرطبي‏:‏ احتجّ الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله‏:‏ ‏{‏أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ الآية، فيجب امتثال أمره، وتحرم مخالفته، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل‏:‏ هي القتل، وقيل‏:‏ الزلازل، وقيل‏:‏ تسلط سلطان جائر عليهم، وقيل‏:‏ الطبع على قلوبهم‏.‏ قال أبو عبيدة، والأخفش‏:‏ «عن» في هذا الموضع زائدة‏.‏ وقال الخليل، وسيبويه‏:‏ ليست بزائدة، بل هي بمعنى بعد، كقوله‏:‏ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ أي‏:‏ بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ من المخلوقات بأسرها، فهي ملكه ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها، فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم ها هنا بمعنى علم ‏{‏وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ معطوف على ما أنتم عليه أي‏:‏ يعلم ما أنتم عليه، ويعلم يوم يرجعون إليه، فيجازيكم فيه بما عملتم، وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه، لأن العمل بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ أي يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر، والظاهر من السياق‏:‏ أن هذا الوعيد للمنافقين ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر والبيهقي في الدلائل، عن عروة، ومحمد بن كعب القرظي قالا‏:‏ لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر بالمدينة، قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه المسلمون، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال‏:‏ هي في الجهاد والجمعة والعيدين‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏على أَمْرٍ جَامِعٍ‏}‏ قال‏:‏ من طاعة الله عامّ‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول‏}‏ الآية قال‏:‏ يعني‏:‏ كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه وقولوا له‏:‏ يا رسول الله يا نبيّ الله‏.‏ وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ لا تصيحوا به من بعيدٍ‏:‏ يا أبا القاسم، ولكن كما قال الله في الحجرات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وأخرج أبو داود في مراسيله، عن مقاتل، قال‏:‏ كان لا يخرج أحد لرعاف، أو إحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، والطبراني، قال السيوطي بسندٍ حسن، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل على أصبعيه تحت عينيه يقول‏:‏ «بكل شيء بصير»‏.‏

سورة الفرقان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ‏(‏1‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ‏(‏3‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏5‏)‏ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهمّ، ثم في النبوّة لأنها الواسطة، ثم في المعاد لأنه الخاتمة‏.‏ وأصل تبارك مأخوذ من البركة، وهي‏:‏ النماء والزيادة، حسية كانت أو عقلية‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تبارك تفاعل، من البركة‏.‏ قال‏:‏ ومعنى البركة‏:‏ الكثرة من كل ذي خير، وقال الفراء‏:‏ إن تبارك وتقدّس في العربية واحد، ومعناهما‏:‏ العظمة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تبارك عطاؤه أي‏:‏ زاد وكثر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى دام وثبت‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل، أي‏:‏ دام وثبت‏.‏ واعترض ما قاله الفراء‏:‏ بأن التقديس إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء‏.‏ قال العلماء‏:‏ هذه اللفظة لا تستعمل إلاّ لله سبحانه، ولا تستعمل إلاّ بلفظ الماضي، والفرقان القرآن، وسمي فرقاناً‏:‏ لأنه يفرق بين الحقّ والباطل بأحكامه، أو بين المحق والمبطل، والمراد بعبده‏:‏ نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم علل التنزيل‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، أو الفرقان، والمراد بالعالمين هنا الإنس والجنّ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهما، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلاً إلى الثقلين، والنذير‏:‏ المنذر أي‏:‏ ليكون محمد صلى الله عليه وسلم منذراً، أو ليكون إنزال القرآن منذراً، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة أي‏:‏ ليكون إنزاله إنذاراً، أو ليكون محمد إنذاراً، وجعل الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم أولى، لأن صدور الإنذار منه حقيقة، ومن القرآن مجاز، والحمل على الحقيقة أولى، ولكونه أقرب مذكور‏.‏ وقيل‏:‏ إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏،

ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع‏:‏ الأولى ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ دون غيره، فهو المتصرف فيهما، ويحتمل‏:‏ أن يكون الموصول الآخر بدلاً، أو بياناً للموصول الأوّل، والوصف أولى، وفيه تنبيه على افتقار الكلّ إليه في الوجود، وتوابعه من البقاء، وغيره، والصفة الثانية ‏{‏وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً‏}‏، وفيه ردّ على النصارى، واليهود‏.‏ والصفة الثالثة‏:‏ ‏{‏وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك‏}‏، وفيه ردّ على طوائف المشركين من الوثنية، والثنوية، وأهل الشرك الخفيّ‏.‏ والصفة الرابعة‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء‏}‏ من الموجودات ‏{‏فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ أي‏:‏ قدّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، وهيأه لما يصلح له‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ قدر له تقديراً من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالخلق هنا مجرّد الإحداث، والإيجاد مجازاً من غير ملاحظة معنى التقدير، وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى‏:‏ أوجد كل شيء فقدّره لئلا يلزم التكرار‏.‏

ثم صرّح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان، فقال ‏{‏واتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً‏}‏، والضمير في ‏{‏اتخذوا‏}‏ للمشركين، وإن لم يتقدّم لهم ذكر، لدلالة نفي الشريك عليهم أي‏:‏ اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا‏}‏، والجملة في محل نصب صفة لآلهة أي‏:‏ لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، وغلب العقلاء على غيرهم، لأن في معبودات الكفار الملائكة، وعزير والمسيح ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخلقهم الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار أنها تضرّ وتنفع‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏‏:‏ أن عبدتهم يصوّرونهم‏.‏ ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ لأِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً، ولا يدفعوا عنها ضرراً، وقدّم ذكر الضرّ، لأن دفعه أهمّ من جلب النفع، وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم، فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم‏؟‏ ثم زاد في بيان عجزهم، فنصص على هذه الأمور، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى، ولا بعثهم من القبور، لأن النشور الإحياء بعد الموت، يقال‏:‏ أنشر الله الموتى، فنشروا، ومنه قول الأعشى‏:‏

حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجباً للميت الناشر

ولما فرغ من بيان التوحيد، وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوّة، فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ‏}‏ أي‏:‏ كذب ‏{‏افتراه‏}‏ أي‏:‏ اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى القرآن ‏{‏وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ على الاختلاق ‏{‏قَوْمٌ ءاخَرُونَ‏}‏ يعنون من اليهود‏.‏ قيل‏:‏ وهم أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مرّ الكلام على مثل هذا في النحل‏.‏ ثم ردّ الله سبحانه عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً‏}‏ أي‏:‏ فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً، وكذباً ظاهراً، وانتصاب ‏{‏ظلماً‏}‏ ب ‏{‏جاءُوا‏}‏، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى، ويعدّى تعديته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنه منصوب بنزع الخافض، والأصل جاءُوا بظلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو منتصب على الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلماً، لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وهذا هو الظلم، وأما كون ذلك منهم زوراً، فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة‏.‏

ثم ذكر الشبهة الثانية، فقال ‏{‏وَقَالُواْ أساطير الأولين‏}‏ أي‏:‏ أحاديث الأوّلين، وما سطروه من الأخبار، قال الزجاج‏:‏ واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره‏:‏ أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال ‏{‏اكتتبها‏}‏ أي‏:‏ استكتبها، أو كتبها لنفسه، ومحل اكتتبها النصب على أنه حال من أساطير، أو محله الرفع على أنه خبر ثانٍ، لأن أساطير مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هذه أساطير الأوّلين اكتتبها، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ، واكتتبها خبره، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب، وهو‏:‏ الجمع، لا من الكتابة بالقلم، والأوّل أولى‏.‏

وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنياً للمفعول، والمعنى‏:‏ اكتتبها له كاتب، لأنه كان أمياً لا يكتب، ثم حذفت اللام، فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه، فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، كذا قال في الكشاف، واعترضه أبو حيان ‏{‏فَهِيَ تملى عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها، ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه، ويجوز‏:‏ أن يكون المعنى، اكتتبها‏:‏ أراد اكتتابها ‏{‏فَهِيَ تملى عَلَيْهِ‏}‏ لأنه يقال‏:‏ أمليت عليه، فهو يكتب ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ غدوة وعشياً‏:‏ كأنهم قالوا‏:‏ إن هؤلاء يعلمون محمداً طرفي النهار، وقيل‏:‏ معنى بكرة وأصيلاً‏:‏ دائماً في جميع الأوقات‏.‏

فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم، وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة، وأخبار الأوّلين، بل هو أمر سماويّ أنزله الذي يعلم كلّ شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء، فلهذا عجزتم عن معارضته، ولم تأتوا بسورة منه، وخصّ السرّ للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر، والسرّ‏:‏ الغيب أي‏:‏ يعلم الغيب الكائن فيهما، وجملة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ تعليل لتأخير العقوبة أي‏:‏ إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسوله، والظلم له، فإنه لا يعجل عليكم بذلك، لأنه كثير المغفرة والرحمة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏ تفاعل من البركة‏.‏ وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏}‏ قال‏:‏ يهود ‏{‏فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً‏}‏ قال‏:‏ كذباً‏.‏ وأخرج عبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذى نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ‏}‏ هو‏:‏ القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه، وفرّق الله بين الحق، والباطل ‏{‏لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ قال‏:‏ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً من الله، لينذر الناس بأس الله، ووقائعه بمن خلا قبلكم ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ قال‏:‏ بين لكل شيء من خلقه صلاحه، وجعل ذلك بقدر معلوم ‏{‏واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ قال‏:‏ هي الأوثان التي تعبد من دون الله ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ وهو الله الخالق الرازق، وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئاً، ولا تضرّ ولا تنفع، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً يعني‏:‏ بعثاً ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ هذا قول مشركي العرب ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ‏}‏ هو الكذب ‏{‏افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ على حديثه هذا، وأمره ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ كذب الأوّلين، وأحاديثهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 16‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ‏{‏وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول‏}‏ وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه‏:‏ رسولا استهزاء وسخرية ‏{‏يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق‏}‏ أي‏:‏ ما باله يأكل الطعام كما نأكل، ويتردّد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردّد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الطعام والكسب، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، أو خبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة‏:‏ ‏{‏يَأْكُلُ‏}‏ في محل نصب على الحال، وبها تتمّ فائدة الإخبار كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49‏]‏، والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو‏:‏ الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكماً واستهزاء، والمعنى‏:‏ أنه إن صحّ ما يدّعيه من النبوّة، فما باله لم يخالف حاله حالنا ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ طلبوا‏:‏ أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مصحوباً بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدّقه، ويشهد له بالرسالة، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فيكون‏}‏ بالنصب على كونه جواب التحضيض‏.‏ وقرئ «فيكون» بالرفع على أنه معطوف على أنزل، وجاز عطفه على الماضي، لأن المراد به المستقبل‏.‏

‏{‏أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ‏}‏ معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على فيكون، والمعنى‏:‏ أو هلا يلقى إليه كنز، تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه، إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه من السماء؛ ليستغني به عن طلب الرزق ‏{‏أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تكون‏}‏ بالمثناة الفوقية، وقرأ الأعمش، وقتادة‏:‏ «يكون» بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي‏.‏ وقرأ «نأكل» بالنون حمزة وعليّ وخلف، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏يأكل‏}‏ بالمثناة التحتية أي‏:‏ بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه؛ ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقراءتان حسنتان، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدّم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين ‏{‏وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً‏}‏ المراد ب ‏{‏الظالمون‏}‏ هنا‏:‏ هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به أي‏:‏ ما تتبعون إلاّ رجلاً مغلوباً على عقله بالسحر، وقيل‏:‏ إذا سحر، وهي الرئة أي‏:‏ بشراً له رئة لا ملكاً، وقد تقدّم بيان مثل هذا في سبحان‏.‏

‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال‏}‏ ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي‏:‏ الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه ها هنا ‏{‏فَضَّلُواْ‏}‏ عن الصواب فلا يجدون طريقاً إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزاً، ولهذا قال ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا يجدون إلى القدح في نبوّة هذا النبيّ طريقاً من الطرق ‏{‏تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك‏}‏ أي‏:‏ تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلاً خيراً من ذلك الذي اقترحوه‏.‏ ثم فسر الخير، فقال ‏{‏جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏، فجنات بدل من ‏{‏خيراً‏}‏ ‏{‏وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً‏}‏ معطوف على موضع جعل، وهو الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر برفع «يجعل» على أنه مستأنف، وقد تقرّر في علم الإعراب‏:‏ أن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع، فجاز أن يكون جعل ها هنا في محل جزم ورفع، فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع‏.‏ وقرئ بالنصب، وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين‏.‏ وقرئ بترك الإدغام؛ لأن الكلمتين منفصلتان، والقصر‏:‏ البيت من الحجارة؛ لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل‏:‏ هو بيت الطين، وبيوت الصوف والشعر‏.‏

ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء، فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة‏}‏ أي‏:‏ بل أتوا بأعجب من ذلك كله‏.‏ وهو تكذيبهم بالساعة، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها‏.‏ ثم ذكر سبحانه ما أعدّه لمن كذب بالساعة، فقال ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً‏}‏ أي‏:‏ ناراً مشتعلة متسعرة، والجملة في محل نصب على الحال أي‏:‏ بل كذبوا بالساعة، والحال أنا أعتدنا‏.‏ قال أبو مسلم‏:‏ ‏{‏أعتدنا‏}‏ أي‏:‏ جعلناه عتيداً، ومعدّاً لهم ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً‏}‏ هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة ل ‏{‏سعيراً‏}‏ لأنه مؤنث بمعنى‏:‏ النار، قيل‏:‏ معنى ‏{‏إذا رأتهم‏}‏‏:‏ إذا ظهرت لهم، فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إذا رأتهم خزنتها، وقيل‏:‏ إن الرؤية منها حقيقية، وكذلك التغيظ والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك‏.‏ ومعنى ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏‏:‏ أنها رأتهم، وهي بعيدة عنهم، قيل‏:‏ بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ومعنى التغيظ‏:‏ أن لها صوتاً يدل على التغيظ على الكفار، أو لغليانها صوتاً يشبه صوت المغتاظ‏.‏ والزفير‏:‏ هو الصوت الذي يسمع من الجوف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المراد‏:‏ سماع ما يدل على الغيظ، وهو الصوت أي‏:‏ سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ‏.‏ وقال قطرب‏:‏ أراد علموا لها تغيظاً، وسمعوا زفيراً كما قال الشاعر‏:‏

متقلداً سيفاً ورمحاً *** أي‏:‏ وحاملاً رمحاً، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ سمعوا فيها تغيظاً وزفيراً للمعذبين كما قال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏، وفي واللام متقاربان، تقول‏:‏ افعل هذا في الله ولله‏.‏

‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً‏}‏ وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدّة، وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب ‏{‏مُقْرِنِينَ‏}‏ على الحال أي‏:‏ إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً حال كونهم مقرّنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل‏:‏ مكتفين، وقيل‏:‏ قرنوا مع الشياطين أي‏:‏ قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم ‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ‏}‏ أي‏:‏ في ذلك المكان الضيق ‏{‏ثُبُوراً‏}‏ أي‏:‏ هلاكاً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وانتصابه على المصدرية أي‏:‏ ثبرنا ثبوراً، وقيل‏:‏ منتصب على أنه مفعول له، والمعنى‏:‏ أنهم يتمنون هنالك الهلاك، وينادونه لما حلّ بهم من البلاء، فأجيب عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا‏}‏ أي‏:‏ فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة أي‏:‏ اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك، وأعظم، كذا قال الزجاج ‏{‏وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً‏}‏ والثبور مصدر يقع على القليل والكثير، فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة ها هنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد، والمعنى‏:‏ لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحداً، وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشدّ من ذلك لطول مدّته، وعدم تناهيه، وقيل‏:‏ هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً بل هو ثبور كثير، لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم‏:‏ الدلالة على خلود عذابهم، وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه‏.‏

ثم وبّخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً على لسان رسوله، فقال ‏{‏قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وَعِدَ المتقون‏}‏ والإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة أي‏:‏ أتلك السعير خير أم جنة الخلد‏؟‏ وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها، وعدم انقطاعه، ومعنى ‏{‏التي وُعِدَ المتقون‏}‏‏:‏ التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلاً، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم، أنهم يقولون‏:‏ السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة‏؟‏ وقيل‏:‏ ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك‏:‏ عنده خير‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن‏.‏ كما قال‏:‏

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً‏}‏ أي‏:‏ كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم، ومصيراً يصيرون إليه‏.‏

‏{‏لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما يشاؤونه من النعيم، وضروب الملاذ كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 31‏]‏، وانتصاب خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود‏.‏ ‏{‏كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً‏}‏ أي‏:‏ كان ما يشاؤونه، وقيل‏:‏ كان الخلود، وقيل‏:‏ كان الوعد المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وُعِدَ المتقون‏}‏ ومعنى الوعد المسؤول‏:‏ الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏، وقيل‏:‏ إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 8‏]‏، وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ الوعد الواجب، وإن لم يسأل‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس‏:‏ أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض‏:‏ ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه‏:‏ إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، قال‏:‏ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا‏:‏ يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، أو قالوا‏:‏ فإذا لم تفعل هذا، فسل لنفسك، وسل ربك‏:‏ أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً»، فأنزل الله في ذلك ‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام‏}‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ أي‏:‏ جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت‏.‏

وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال‏:‏ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض، ومفاتيحها ما لم يعط نبيّ قبلك، ولا نعطها أحداً بعدك، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال‏:‏ «اجمعوها لي في الآخرة»، فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً‏}‏‏.‏ وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً»، قيل يا رسول الله‏:‏ وهل لها من عينين‏؟‏ قال‏:‏ «نعم، أما سمعتم الله يقول ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏» وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشدّ بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل برّ وفاجر ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً‏}‏ تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلاّ بدت، ثم تزفر الثانية، فتقطع القلوب من أماكنها، وتبلغ القلوب الحناجر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله‏:‏ ‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ‏}‏ قال‏:‏ «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً‏}‏ قال‏:‏ ويلاً ‏{‏لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا‏}‏ يقول‏:‏ لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في البعث‏.‏ قال السيوطي بسندٍ صحيح عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أوّل ما يكسي حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي‏:‏ يا ثبوراه، ويقولون‏:‏ يا ثبورهم حتى يقف على الناس، فيقول‏:‏ يا ثبوراه، ويقولون‏:‏ يا ثبورهم، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً‏}‏» وإسناد أحمد هكذا‏:‏ حدّثنا عفان عن حميد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره‏.‏ وفي عليّ بن زيد بن جدعان مقال معروف‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً‏}‏ يقول‏:‏ سلوا الذي وعدتكم تنجزوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ‏(‏21‏)‏ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏22‏)‏ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ‏(‏23‏)‏ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ الظرف منصوب بفعل مضمر أي‏:‏ واذكر، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مرّ مراراً‏.‏ قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوريّ‏:‏ ‏{‏يحشرهم‏}‏ بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله في أوّل الكلام ‏{‏كَانَ على رَبِّكَ‏}‏ والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج، فإنه قرأ ‏"‏ نحشرهم ‏"‏ بكسر الشين في جميع القرآن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها، وردّه أبو حبان باستواء المضموم والمكسور إلاّ أن يشتهر أحدهما، اتبع ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ معطوف على مفعول نحشر، وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان، ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيهاً على أنها جميعاً مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتباراً بكثرة من يعبدها، وقال مجاهد، وابن جريج‏:‏ المراد‏:‏ الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد‏.‏ وقال الضحاك، وعكرمة، والكلبي‏:‏ المراد‏:‏ الأصنام خاصة، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم، فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة، ‏{‏فَيَقُولُ ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل‏}‏ قرأ ابن عامر، وأبو حيوة، وابن كثير، وحفص، ‏"‏ فنقول ‏"‏ بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم، وكذا أبو حاتم‏.‏ والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ‏}‏ للتوبيخ والتقريع، والمعنى‏:‏ أكان ضلالهم بسببكم وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق، والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب‏؟‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سبحانك‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، ومعنى سبحانك‏:‏ التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة، أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل أي‏:‏ تنزيهاً لك ‏{‏مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ أي‏:‏ ما صح، ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك‏؟‏ والوليّ يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور ‏{‏نتخذ‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الحسن وأبو جعفر‏:‏ ‏"‏ نتخذ ‏"‏ مبنياً للمفعول أي‏:‏ ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر‏:‏ لا تجوز هذه القراءة، ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر «من» مرتين، ولو كان كما قرأ لقال‏:‏ أن نتخذ من دونك أولياء‏.‏

وقيل‏:‏ إن «من» الثانية زائدة، ثم حكي عنهم سبحانه‏:‏ بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان، فقال‏:‏ ‏{‏ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر‏}‏ وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى‏:‏ ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم، ومتعت آباءهم بالنعم، ووسعت عليهم الرزق، وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك‏.‏ وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ‏:‏ ‏"‏ ينبغي ‏"‏ مبنياً للمفعول‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ زعم سيبويه أنها لغة، وقيل‏:‏ المراد بنسيان الذكر هنا‏:‏ هو ترك الشكر ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً‏}‏ أي‏:‏ وكان هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزليّ قوماً بوراً أيْ‏:‏ هلكى، مأخوذ من البوار، وهو الهلاك‏:‏ يقال‏:‏ رجل بائر وقوم بور، يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير، ويجوز أن يكون جمع بائر‏.‏ وقيل‏:‏ البوار الفساد‏.‏ يقال‏:‏ بارت بضاعته أي‏:‏ فسدت، وأمر بائر أي‏:‏ فاسد، وهي لغة الأزد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع، فلا يكون فيها خير، وقيل‏:‏ إن البوار الكساد، ومنه بارت السلعة إذا كسدت‏.‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ‏}‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ فقال الله عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم أي‏:‏ فقد كذبكم المعبودون بما تقولون أي‏:‏ في قولكم إنهم آلهة ‏{‏فَمَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ أي‏:‏ الآلهة ‏{‏صَرْفاً‏}‏ أي‏:‏ دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل‏:‏ حيلة ‏{‏وَلاَ نَصْراً‏}‏ أي‏:‏ ولا يستطيعون نصركم، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به، ولا نصراً من الله، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ‏:‏ ‏"‏ تستطيعون ‏"‏ بالفوقية، وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية، وقال ابن زيد‏:‏ المعنى‏:‏ فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا، فمعنى ‏{‏بما تقولون‏}‏‏:‏ ما تقولونه من الحق، وقال أبو عبيد‏:‏ المعنى‏:‏ فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏بما تقولون‏}‏ بالتاء الفوقية على الخطاب‏.‏ وحكى الفراء‏:‏ أنه يجوز أن يقرأ‏:‏ ‏"‏ فقد كذبوكم ‏"‏ مخففاً بما يقولون، أي‏:‏ كذبوكم في قولهم، وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد، والبزي ‏{‏وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً‏}‏ هذا وعيد لكل ظالم، ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وقرئ‏:‏ ‏"‏ يذقه ‏"‏ بالتحتية، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة‏.‏

ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الجملة الواقعة بعد «إلاّ» صفة لموصوف محذوف، والمعنى‏:‏ وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ المرسلين‏}‏ دليلاً عليه، نظيره‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ أي‏:‏ وما منا أحد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير‏:‏ إلاّ من أنهم، فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من المقدّرة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ أي‏:‏ إلاّ من يردها، وبه قرأ الكسائي، قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ؛ لأنّ من الموصولة لا يجوز حذفها‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ إنها في محل نصب على الحال، والتقدير‏:‏ إلاّ وأنهم، فالمحذوف عنده الواو، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إلا إنهم‏}‏ بكسر إنّ لوجود اللام في خبرها كما تقرّر في علم النحو، وهو مجمع عليه عندهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ إلاّ أن عليّ بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال‏:‏ يجوز في إنّ هذه الفتح، وإن كان بعدها اللام، وأحسبه وهماً، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يمشون‏}‏ بفتح الياء، وسكون الميم، وتخفيف الشين‏.‏ وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة، وهي بمعنى القراءة الأولى، قال الشاعر‏:‏

أمشي بأعطان المياه وأتقي *** قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير‏:‏

منه تظل سباع الحيّ ضامزة *** ولا تمشي بواديه الأراجيل

‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ هذا الخطاب عامّ للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض، فالصحيح فتنة للمريض، والغنيّ فتنة للفقير، وقيل‏:‏ المراد بالبعض الأوّل‏:‏ كفار الأمم، وبالبعض الثاني‏:‏ الرسل‏.‏ ومعنى الفتنة‏:‏ الابتلاء والمحنة‏.‏ والأوّل أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به؛ فالمريض يقول‏:‏ لم لم أجعل كالصحيح‏؟‏ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض، فلا يضجر منه، ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده‏.‏ ونحو هذا مثله، وقيل‏:‏ المراد بالآية‏:‏ أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال‏:‏ لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء، والزجاج‏.‏ ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏ ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة‏:‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره، أم لا تصبرون‏؟‏ أي‏:‏ أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة، والابتلاء العظيم‏.‏

قيل‏:‏ موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله‏:‏ ‏{‏أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏، ثم وعد الصابرين بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ أي‏:‏ بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أتصبرون‏}‏‏:‏ اصبروا مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ أي‏:‏ انتهوا‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على ‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا‏}‏ أي‏:‏ وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر‏:‏

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما *** على أيّ جنب كان في الله مصرعي

أي‏:‏ لا أبالي، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عوامل

أي‏:‏ لم يخف، وهي لغة تهامة‏.‏ قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل‏:‏ لا يأملون، ومنه قول الشاعر‏:‏

أترجو أمة قتلت حسينا *** شفاعة جدّه يوم الحساب

والحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى‏:‏ لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة‏}‏ أي‏:‏ هلا أنزلوا علينا، فيخبرونا أن محمداً صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله ‏{‏أَوْ نرى رَبَّنَا‏}‏ عياناً، فيخبرنا بأن محمداً رسول، ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه، فقال ‏{‏لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً‏}‏ أي‏:‏ أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏، والعتوّ مجاوزة الحد في الطغيان، والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه، ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعدّ من المستعدّين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حدّه، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى‏.‏

وانتصاب ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة‏}‏ بفعل محذوف أي‏:‏ واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه، والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت، أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدلّ عليه قوله ‏{‏لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فاعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى‏.‏

قال الزجاج‏:‏ المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله ‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ أي‏:‏ ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة، حجراً محجوراً، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل‏:‏ أتفعل كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ حجراً محجوراً أي‏:‏ حراماً عليك التعرّض لي‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا من قول الملائكة، أي‏:‏ يقولون للكفار‏:‏ حراماً محرّماً أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

ألا أصبحت أسماء حجراً محرّما *** وأصبحت من أدنى حمومتها حماء

أي‏:‏ أصبحت أسماء حراماً محرّماً، وقال آخر‏:‏

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها *** حجر حرام إلاّ تلك الدهاريس

وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة، وجعلها من جملتها‏.‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً‏}‏ هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها صورة الخير‏:‏ من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلاّ الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه، فقدم إلى ما معهم من المتاع، فأفسده، ولم يترك منها شيئاً، وإلاّ فلا قدوم ها هنا‏.‏ قال الواحدي‏:‏ معنى قدمنا‏:‏ عمدنا وقصدنا، يقال‏:‏ قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر‏:‏

وقدم الخوارج الضلال *** إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلال *** وقيل‏:‏ هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء‏.‏ قال النضر بن شميل‏:‏ الهباء‏:‏ التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو ما يدخل من الكوّة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري‏:‏ والمنثور المفرق، والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرّق متبدّد وقيل‏:‏ إن الهباء‏:‏ ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل‏:‏ هو الماء المهراق‏.‏ وقيل‏:‏ الرماد‏.‏ والأوّل هو الذي ثبت في لغة العرب، ونقله العارفون بها‏.‏ ثم ميز سبحانه حال الأبرار من حال الفجار، فقال ‏{‏أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً‏}‏ أي‏:‏ أفضل منزلاً في الجنة ‏{‏وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏}‏ أي‏:‏ موضع قائلة، وانتصاب ‏{‏مستقرًّا‏}‏ على التمييز‏.‏ قال الأزهري‏:‏ القيلولة عند العرب‏:‏ الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ، وإن لم يكن مع ذلك يوم‏.‏ قال النحاس‏:‏ والكوفيون يجيزون‏:‏ العسل أحلى من الخلّ‏.‏

وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ الآية قال‏:‏ عيسى، وعزير، والملائكة‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قَوْماً بُوراً‏}‏ قال‏:‏ هلكى‏.‏

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هو الشرك‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال‏:‏ يشرك‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق‏}‏ يقول‏:‏ إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ قال‏:‏ بلاء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ قال‏:‏ يقول الفقير‏:‏ لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم‏:‏ لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الأعمى‏:‏ لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً‏}‏ قال‏:‏ شدّة الكفر‏.‏

وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطية العوفيّ نحوه‏.‏ وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ قال‏:‏ عوذاً معاذاً، الملائكة تقوله‏.‏ وفي لفظ قال‏:‏ حراماً محرّماً أن تكون البشرى في اليوم إلاّ للمؤمنين‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدري في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ قال‏:‏ حراماً محرّماً أن نبشركم بما نبشر به المتقين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ قالا‏:‏ هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدّة قال‏:‏ حجراً محجوراً حراماً محرّماً‏.‏

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ‏}‏ قال‏:‏ عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏هَبَاءً مَّنثُوراً‏}‏ قال‏:‏ الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوّة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب، فلا يبقي منه شيء، فجعل الله أعمالهم كذلك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال‏:‏ هو ما تسفي الريح وتبثه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ هو الماء المهراق‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏}‏ قال‏:‏ في الغرف من الجنة‏.‏ وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال‏:‏ لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏}‏‏.‏